ثورة القدس 1824-1826م
إعداد:
د. خالد محمد صافي
قسم التاريخ - جامعة الأقصى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
تتناول هذه الدراسة ثورة القدس في الفترة بين 1824-1826م. وتمتاز الثورة بندرة المادة التاريخية عنها. فلم يرد ذكر لثورة القدس في المصادر التاريخية اللبنانية المعاصرة ومنها مثلاً كتاب الأمير حيدر الشهابي "تاريخ لبنان في عهد الأمراء الشهابيين"(1)، أو نوفل نوفل في كتابه "كشف اللثام عن محيا الحكومة والحكام في مصر وبر الشام(2)، أو كتاب ميخائيل مشاقة "منتخبات من الجواب على مقترحات الأحباب"(3)، كما لم يرد ذكر لها في المصادر السورية المعاصرة مثل تاريخ ميخائيل الدمشقي المعروف(4)، وكتاب حسن آغا العبد الموسوم بـ "قطعة من تاريخ حسن آغا العبد"(5). ويبدو أن كون الحديث عن ثورة في القدس لم يحدث بها تدخلاً لبنانياً مباشراً مثلما حدث في مهاجمة قلعة صانور 1829م فإنها لم تثر اهتمام المؤرخين اللبنانيين. ولكن ما يثير الاستغراب هو المصادر الدمشقية التي لم تتناول ذلك بالرغم من مشاركة والي دمشق مشاركة فعلية في الشطر الأول منها. وقد تم تغطية الحدث فقط من قبل راهب يوناني يدعى نيوفتوس سبيريدوم ""Neophytes Spyridon كان يقيم في دير يوناني في القدس ووثق الأحداث في كتاب تحت عنوان "حوليات فلسطينية 1821-1840" والذي كان له الفضل في إماطة اللثام عن تفاصل هذه الثورة. وبالتالي يمكن القول إن هذا المصدر يعد المصدر الوحيد لهذه الثورة، وأن أي معلومات أخرى تتعلق بها قد جاءت على شكل شذارات قليلة سواء في وثائق الأرشيف المصري حول تلك الفترة، أو في سجلات المحاكم الشرعية.
ثانياً: أسباب الثورة
قامت الحكومة العثمانية سنة 1824م بعزل والي دمشق درويش باشا واستبدلته بوالي حلب مصطفى باشا الذي حكم ولاية دمشق في الفترة بين 1824- 1826م. حيث كان ظالماً ففرض ضرائب باهظة على السكان لم يكن لهم عهد بمثلها. إذ إن الأعشار التي طلبها وكلاء الباشا في تلك السنة تصل إلى عشرة أضعاف الأعشار التي فرضت في السنة السابقة. وقد أدى ذلك إلى سخط وتذمر السكان الذين شاركوا في ثورة ساهم بها الكثير من الفلاحين(6). وقد قال الراهب نيوفيتوس: "وقد عانت منطقة القدس سنة 1824م كثيراً في عهد مصطفى باشا (والي حلب) الذي خلف درويش باشا في منصب ولاية دمشق. حيث طلب ضرائب باهظة وهدايا من الفلاحين ومن الأديرة المسيحية. فقد طلب من الفلاحين عشرة أضعاف ما يطلب منهم من أعشار في العادة. ولذلك حدث تمرد كبير وثار معظم الفلاحين. وحيث أن الفلاحين لا يتوفر لديهم أكثر من خبز يومهم ومع ذلك أُجبروا على دفع ليس فقط ضعف مقدار الضريبة السنوية وهي (60000 قرش) ولكن أيضاً الضريبة كبيرة لعرب العبيدية الذين لا يدفعون شيئاً للوالي"(7). فمثلاً كان يفترض أن يدفع عرب العبيدية مبلغ 9000 قرش سنة 1824م، ولكنهم رفضوا الدفع. ولذلك تم اعتقال بعضهم فهب أقاربهم وجيرانهم إلى دير الأخوية المسيحية اليونانية من أجل طلب الإفراج عنهم. ولكن كان من الصعب ذلك بدون دفع المبلغ المطلوب. وبعد نحو أثني عشر يوماً ذهب عرب العبيدية إلى دير مار سابا وفتحوا ثغرة في السور. وقد قامت الأخوية باقتراض المال بنسبة فائدة عالية ودفعوا 9000 قرش إلى موسى بك عن عرب العبيدية(8).
وكانت الدولة العثمانية منشغلة آنذاك في القضاء على الثورة اليونانية، وعملت على فرض ضرائب باهظة على الرعايا بصفة إعانة حربية(9).
ثالثاً: وقائع الثورة:
يمكن تقسيم وقائع الثورة إلى عدة مراحل:
أ : اندلاع الثورة وتعسف الوالي في قمعها
عين مصطفى باشا متسلماً جديداً على سنجق القدس هو موسى بيك بدلاً من سليمان بيك الذي كان في عهد الوالي السابق درويش باشا والذي فشل في تحصيل الضرائب الباهظة التي فرضها الوالي الجديد(10). وبقي مصطفى بيك تفكجي باشا، واستخدم العديد من الوسائل مع أعيان القدس من أجل الاستيلاء على حصة كبيرة من الضرائب التي يدفعها مسيحيو القدس والفلاحون. وعندما رأى مصطفى باشا أن الفلاحين سوف يدفعون فقط الضريبة المعتادة، وأنهم يمتنعون حتى عن دفعها حاول أن يجبرهم على دفعها. فأرسل مائة جندي لحراسة قلعة القدس حيث لا يوجد هناك سوى ستين فقط لحمايتها. ثم أرسل إلى المتسلم لمضاعفة الضريبة على الفلاحين حيث أطاع الأمر وبدأ بتنفيذه. ولذلك قام الفلاحون على الفور بالثورة حيث طردوا رجال المتسلم من قرى نواحي السنجق(11). وكان على رأس الفلاحين آل أبو غوش في ناحية بني مالك ومشايخ بيت لحم ومنطقتها(12).
وكان سنجق القدس مقسماً إلى عدة نواحٍ هي:
- ناحية بني حارثة: وهي تقع شمال القدس وتمتد بين القدس ونابلس، وتولت إدارتها عائلة سمحان.
- ناحية بني مالك: وتقع إلى الغرب من القدس بينها وبين يافا، وتولت إدارتها عائلة أبو غوش.
- ناحية بني حسن: وتقع إلى الجنوب وتشمل قرى المالحة وبيت إكسا.
- ناحية الوادية: وتشمل قرى بيت لحم، وبيت ساحور، وبيت جالا.
- ناحية بني سالم
- ناحية بني مرة
- ناحية بني زيد
وكان يتولى إدارة الناحية شيخ مشايخ، وكان منصباً متوارثاً ضمن الأسرة الواحدة كأسرة أبو غوش(13).
فأبلغ المتسلم الباشا برفض الفلاحين دفع الضرائب فقرر أن يقود بنفسه دورة جباية الضرائب السنوية من ألوية جنين ونابلس والقدس. وجمع على الفور جيشاً من خمسة آلاف رجل، وانطلق من دمشق إلى نابلس حيث بقي هناك عشرين يوماً لجمع الضرائب التي قررت من نواحيها(14).
ثم توجه إلى سنجق القدس حيث أخذ يجبي الضرائب، وقام بسلسلة تعيينات جديدة لرجال الحكم والإدارة في مدينة القدس بما فيها تعيين متسلم جديد هو عثمان آغا. ونجح في القبض على أحد زعماء آل أبو غوش، فاضطر أخوه إلى دفع 35 كيساً (500 17) في سبيل إطلاق سراحه(15).
وقد علم الفلاحون في منطقة القدس بغضب الباشا ومقدار القوة المصاحبة له فخشوا من نقمته فاختلفوا في كيفية معالجة الأمر. فقرر بعضهم الاستسلام ودفع المبالغ المطلوبة بينما قرر آخرون المقاومة فيما قرر البعض الآخر الهرب. فهؤلاء الذين يعيشون في القرى حول مدينة القدس مثل سكان سلوان ووادي شعفاط شرق القدس، والمالحة وعين كارم والولجة في الغرب وبيت حنانيا وبيتين إلى الشمال وصور باهر وبيت صافا وقرى أخرى مع بعض سكان بيت جالا أخذوا نساءهم وأطفالهم و بهائمهم وممتلكاتهم المنقولة وهربوا إلى أماكن ذات ممرات وعرة. أما سكان بيت لحم الذين تحالفوا مع عرب التعامرة و آل اللحام و فارين من قرى أخرى فقد حصنوا ثلاثة أديرة من أديرة اليونانيين، والفرانك والأرمينيين وقررا القتال. وقد لجأ سكان المالحة إلى دير الصليب المقدس جالبين معهم كل ممتلكاتهم المنقولة، وقمحهم وشعيرهم وجبنهم وزيتهم وزبدتهم وملابسهم مخفين فيها أساور الفضة وأغطية الرأس للنساء (التي تحتوي على قطع نقدية فضية وذهبية). بينما قام سكان صور باهر وبيت صفافا وبيت جالا وبعض سكان بيت لحم بإحضار ممتلكاتهم إلى دير مار إلياس وأخفوها هناك. بينما أخفى عرب العبيدية ممتلكاتهم الصغيرة في دير مار سابا(16).
وعندما وصل الباشا إلى القدس في نهاية شهر فبراير 1825م، لم يحضر فلاحو القرى لدفع التزاماتهم، وعندما علم الباشا بهربهم أمر جنوده بالاستيلاء على قراهم وتدميرها. ولكن عندما ذهبوا إلى هناك لم يجدوا شيئاً بل منازل خاوية وأكواخاً. ولسوء الحظ فإن بعض أتراك القدس قد شاهدوا سكان بيت جالا يحملون ممتلكاتهم إلى دير مار إلياس فأفشوا ذلك إلى موسى بك نائب المتسلم الذي أراد أن يبرز قدرته على القيام بواجبه ومن أجل نيل رضا الباشا فقدم تقريراً له حول هذا الأمر. وفي الحال أرسل الباشا جنوده لنهب الدير أخذين قمح و شعير وملابس الفلاحين وكذلك ممتلكات الأخوة المسيحية. وقبضوا على رئيس دير مار سابا ويدعى فلافيانوس "Flavianos "، وجلبوه إلى معسكر الباشا الذي اتهمه بالخيانة على عدم قدومه إلى معسكر الباشا وتقديم تقرير عن إخفاء الفلاحين ممتلكاتهم في ديره. واتهمه بأنه شريك للمتآمرين وأنه يستحق الإعدام، وأصدر أمراً بإعدامه. ولكن قبل التحرك لإعدامه طلب الباشا من الحرس الذين سيعدمونه بإعادته ومنحه الحياة إذا أدلى بمكان إخفاء نقود الفلاحين. فأنكر فلافيانونس أنه شاهدها فأمر الباشا عند ذلك بوضعه على جذع وضربه خمسمائة جلده على قدميه. وسحبوه نصف ميت واستجوبوه مرة أخرى ولكن فلافيانونس لم يستطع الكلام فتم تقييده بالسلاسل ووضعه مع المعتقلين الآخرين في مبني بلا سقف بالرغم من أن الطقس كان بارداً وماطراً. وبعد تدخل تم الإفراج عنه وإعادته للدير حيث تم تقديم العلاج المكثف له حتى أنقذت حياته ولكنه بقي يعاني من عرج في قدميه حتى وفاته(17).
وبعد أن علم الباشا بأن أن فلاحي المالحة قد أخفوا ممتلكاتهم في دير الصليب المقدس أرسل جنوده واستولوا عليها. وتم حفر الدير في عدة أماكن للبحث عن النقود وودائع أخرى تعود للفلاحين. كذلك بلغ الباشا أن سكان بيت لحم والعديد من سكان قرى بيت جالا وعين كارم وكذلك من سلوان قد أخفوا ودائعهم في منازل محددة. لذلك وبناء على أوامر الباشا تم اعتقال العديد من المسيحيين واليونانيين وحتى من مسلمي القدس واستجوابهم عن أماكن ودائع الفلاحين. قد عانوا الكثير وأُجبروا على دفع غرامة كبيرة. وقال الراهب "نيوفيتوس": "المصيبة عمت كل مكان داخل وخارج القدس"(18).
ولم يرغب الباشا بالوصول إلى صلح مع الفلاحين أو تخفيض طلباته وكان يرى بحسم الأمر عسكرياً. وقام أولاً بإرسال ألفين من الجنود من أجل إخضاع بيت لحم ولكنهم لم ينجحوا حتى في الوصول للمدينة. وقام بزيادة جيشه من قبل فلاحين مرتزقة، فإنه أخذ المدفعية مع عزمه على الزحف إلى بيت لحم من أجل تدميرها وحرقها. وسكان المدينة مع حلفائهم أخذوا أملاكهم من الأديرة الثلاثة، وأبدوا استعدادهم لمواجهته. وقد خشي رجال الدين في الأديرة من هدم الأديرة وكنيسة المهد(19).
ب: الصلح بين الطرفين
وقد توسط رجال الدين المسيحيين بين باشا دمشق وبين الفلاحين منعاً لقيام الباشا بتدمير أديرتهم بالمدفعية. حيث حاولوا عقد الصلح بين الطرفين منعاً لإراقة مزيد من الدماء وإلحاق مزيد من التدمير. وبمساعدة الكيخيا وأعيان آخرون نجحت الوساطة ولكن الغرامة قد زادت إلى مائه ألف قرش(20) وقد توصل الباشا إلى الصلح لأن موسم الحج قد اقترب وعليه العودة إلى دمشق للاستعداد لتجهيز قافلة الحج وقيادتها(21).
وقد دفعت الأديرة المسيحية اليونانية ثلاثين ألفاً قاموا باقتراضها. وقد دفع سكان بيت لحم ثلاثين ألفاً كما دفع الأرمن والفرنك أربعين ألفاً أخرى. وبعد أن أعلن سكان بيت لحم تسليمهم وخضوعهم للباشا غادر الباشا إلى القدس تاركاً حراساً في المدينة وفي الأديرة. وقد حاول الباشا بذرائع متعددة مضاعفة المبالغ المفروضة على الأديرة اليونانية إلى ثلاثة أضعاف حيث كانت تدفع سنوياً ستين ألف قرش. وقد توصلوا في النهاية إلى دفع مبلغ مائة وعشرة ألاف قرش. وقد قام رجال الدين برهن جواهر إلى مرابي يهودي غني مقابل قرض بقيمة خمسين ألف قرش بفائدة كبيرة. وقد أصر الباشا على تحصيل كامل المبلغ حالاً. وكان ذلك في إبريل 1825م حيث اقترب عيد الفصح الذي صادف تلك السنة 29 إبريل فأمر الباشا_ طبقاً لمشورة موسى بك كما يحتمل_ بأن باب كنيسة القيامة لن يفتح. وقد انصاع متولي باب الكنيسة لأوامر الباشا ورفض فتح الباب. بعد محاولات لرفع الحظر وافق الباشا على قبول صك بالمبلغ المتبقي (ستون ألفاً) على بطريركية القدس من أحد رؤساء الكنيسة في استانبول(22)
ج: المرحلة الثانية: تجدد الثورة
وقد غادر باشا إلى دمشق في يوم الجمعة تاركاً المتسلم مع نحو مائة جندي في القلعة. وقال الراهب "نيوفيتوس" : "وحيث إن الباشا "الملعون" كان ظالماً ليس فقط للمسيحيين بل لليهود ومسلمي المدينة والفلاحين فإنه كان مكروهاً من قبل الكل على السواء"(23). وبمجرد مغادرته فإن سكان القدس قد انضموا للفلاحين وقرروا الثورة مرة ثانية. ولم يستطع المتسلم جمع الضرائب "الأعشار" (التي كانت متأخرة في بعض القرى) بسبب تجدد الثورة. فالجنود الذين وضعوا لحراسة بيت لحم أهانوا النساء، وأرعبوا المسيحيين اليونانيين والفرنك. وقد انضم بعض مسلمي بيت لحم للتعامرة في ثورتهم. وقُتل بعض الجنود بينما تم إبعاد الآخرين. وقد كتب المتسلم لمصطفى باشا حول تجدد الثورة، ولكن بسبب استعداد الأخير للذهاب على رأس قافلة الحج فإنه أجاب بأن على المتسلم أن يجمع جيشاً لمهاجمة وإخضاع سكان بيت لحم بكل ما يستطيع. وقام المتسلم بتعيين موسى بك قائداً على رأس الحملة، وأمر الشبان المسلمين في المدينة بحمل السلاح والانضمام للجيش. وغادر المدينة على رأس الجيش تاركاً فقط أحد عشر جندياً في القلعة، ومتزوداً بمدافع وذخيرة. وقد أغلق سكان بيت لحم وحلفائهم الطريق أمامه من خلال تحصين قرية بيت صفافا والقرى الأخرى الواقعة حول دير مار إلياس. وبعد ثلاثة أيام أُجبر السكان على التقهقر أمام نيران المدفعية، وعند ذلك تقدم المتسلم متخذاً موقعاً جيداً بين قرية بيت لحم وقرية بيت جالا. وخلال ذلك فإن معظم من كان في القدس ممن كانوا جنوداً أو حملوا السلاح سابقاً قد فكروا في التمرد. وحالاً وضعوا الفكرة موضع التنفيذ. وفي الخامس من يونيو 1925م فإن بعض الرجال الذين قد أُرسلوا نفذوا إلى القلعة وقاموا بمفاجأة الحارس، واستولوا على مفاتيح المخزن، وقبضوا على العشرة الباقين الذين كانوا غير مسلحين في الغرفة. وبعض المهاجمين اندفع إلى البرج منادياً بفرح طالباً السكان بالانضمام للثورة. وبسرعة قاموا بتسليح آخرين ووضعوا حارساً على بوابة القلعة. بعض السكان وجدوا أمنيتهم تتحقق فركضوا في سوق المدينة محرضين الكبار والصغار إلى النفير العام. بينما آخرون اندفعوا لحراسة بوابات المدينة من أجل منع جنود المتسلم من الدخول عند عودتهم(24).
وقد تسلح مسلمو القدس بكامل عتادهم مزهوين بها على الأسوار، ومطلقي النار في الهواء بشكل عشوائي. و قام الذين تجمعوا في القلعة برفع الرايات على البرج منشدين أناشيد النصر والظفر. وأعدوا المدفع لمهاجمة المتسلم الذي كان برفقة جنوده وسمع الضوضاء المستمرة المنبعثة من إطلاق النار في القلعة وأسوار القدس. وبعد أن نظر بمنظاره شاهد الرايات على برج القلعة، واعتقد أن اليونانيين قد وصلوا للاستيلاء على المدينة. لذلك أخذ رجال مدفعيته وجنوده بمن فيهم الذين جندوا من القدس وقفل عائداً للمدينة، ولكنه أخبر عندما اقترب منها بحقيقة ما جرى. فداخله الخوف فزحف رأساً إلى بوابة داوود عازماً دخول المدينة، ولكنه سمع مع جنوده الكلمات اللاذعة الذي صرخ بها من الأسوار "عد وأمضِ". فقد تفاجأ المتسلم من هذه الأحداث غير المتوقعة، وعجز عن التصرف بطلب منهم بشكل ذليل السماح له بالدخول وأخذ ممتلكاته الموجودة في السرايا، ولكن لم ينصت له أو لجنوده أحد. وحيث لم يتوفر له مكان للذهاب إليه فقد توجه إلى آل أبي غوش الذين أعطوا وعدهم بالسماح له بالمرور إلى الرملة دون خوف. وبعد إبقاء مدفعين بحوزة آل أبي غوش عبر مع جنوده إلى الرملة حيث تم استقباله من قبل متسلم المدينة. ولم يكتف المقدسيون بعدم السماح للمتسلم أو لجنوده بالمرور بل إنهم قبضوا أيضاً على حراس السرايا وقيدوهم، وسجنوهم. وقد تم إبعاد كل ألباني أو عثماني من المدينة بمن فيهم حسين بك الكافالي الذي عاش في المدينة لمدة اثنتي عشرة سنة(25).
وسيطر الثوار بذلك على مدينة القدس ونواحيها(26). لقد أصبح سكان القدس أسياد أنفسهم، ومستقلين تماماً وتصرفوا كلهم كزعماء وأعيان. ولاحقاً اجتمع الحكماء، وعينوا كقادة أثنين من الوجهاء الأقوياء. كان الأول منهم هو يوسف عرب الجب جي باشي (من البكتاشيين) والثاني هو أحمد آغا (العسلي) الدزدار. أما سكان بيت لحم وعرب العبيدية وسكان القرى الأخرى في القدس بمن فيهم المسيحيين فقد أُعفوا من معظم الضرائب. وقد تم تخفيض العوائد التي تدفع من قبل الأديرة(27). وقد يشير إلى تصرف زعماء الثورة كحكام حقيقيين في القدس ونواحيها. حيث قال العارف: "فأصبحوا مستقلين بكل ما في كلمة الاستقلال من معنى"(28).
قال الراهب "نيوفيتوس" : "لقد نجح المقدسيون في ثورتهم حيث حاولوا أن يخفوا ذنبهم ويؤمنوا الحرية التي أحبوها بولع... حيث فعل كل واحد منهم ما يأمل"(29). وقد كتبوا إلى محمد علي باشا والي مصر وإلى عبد الله باشا والي صيدا وإلى مستشاري السلطان مقدمين وصفاً وتبريراً لأعمالهم. ولكنهم لم يتمتعوا بحريتهم طويلاً "فبعد أن علم السلطان محمود الثاني بتمردهم أرسل لسكان القدس يطالبهم بالتسليم، وتقديم الطاعة كالسابق لوالي دمشق(30).
وقد أدت سياسة العنف والبطش التي اتسمت بها سياسية مصطفى باشا في زيادة التذمر ضد حكمه حتى في مدينة دمشق نفسها ولاسيما في أوساط التجار. وتوالت الشكاوي عليه حتى من قبل الحجاج الذين اتهموه بعدم المحافظة على القافلة وحمايتها حماية كافية، وقلة المؤن فيها، كما قدم قنصل فرنسا شكاوى ضد سياسة الوالي. ولذلك أقدمت الدولة على عزله بعد عودته من الحجاز وعينت بدلاً منه ولي الدين باشا في سبتمبر 1825م(31).
وقد ورد في رسالة من قائم مقام ولاية دمشق إلى متسلم القدس وعلمائها أن الدولة العثمانية "قد أنعمت تنصيب الشام وتوابعه وملحقاته وإلحاقه سنجق القدس ونابلس وإمارة الحج على سعادة أفندي الدستور الوقور الحاج ولي الدين باشا المفخم"(32).
ومع اقتراب موسم الحج في شوال 1241هـ/ أيار 1826م أصبحت الأموال المطلوبة من لواء القدس والمخصصات لمصاريف الحجاج ضرورية جداً. لذلك أصدر الوالي الجديد _ ولي الدين_ إلى متسلم القدس وأعيانها وعلمائها ومشايخ النواحي أن يقوموا بتجهيز الأموال المطلوبة منهم حتى حلول ركابه في الدورة المنوي القيام بها مذكرهم أن هذه الأموال والذخائر هي من أجل تمويل قافلة الحج حيث ورد في رسالته : "أنه غير خافي للجميع أن من أهم الأمور والمهمات العائدة إلى الدين والدولة هي خدامة طريق الحاج الشريف، وهذه الخدمة الشريفة واجبة على الجميع من رفيع ووضيع" (33). وقد نصت الرسالة أيضاً على تجهيز الذخائر والأموال المطلوبة "قد صممنا على حركة ركابنا من مقر حكومتنا محروسة الشام قريباً بعد تاريخه لطريق الدورة بالعساكر الكثيرة والجيوش الوفيرة، وبمنته تعالى شأنه نتشرف بزيارة المسجد الأقصى وصخرة الله المشرفة... فاقتضى إشعاركم بذلك لكي تبادروا بمداركة الذخاير السلامية... وتكون حاضرة قبل بيوم... أصدرنا لكم مرسومنا هذه من ديوان الشام والقدس ونابلس... فبوصوله ووقوفكم على مضمونة تعملوا بموجبة وتحاشوا مخالفته واعلموه واعتمدوه غاية الاعتماد"(34). ويبدو من المرسوم أنه يحمل صيغة تهديدية من خلال الإشارة إلى قدومه إلى الدورة بالعساكر الكثيرة والجيوش الوفيرة. كما أن المرسوم يتضمن صيغة ترغيبية عندما أشار إلى أن أموال الدورة ستذهب إلى تمويل قافلة الحج الشامي والتي تعد خدمتها واجبة على الجميع.
ولم يرغب ولي الدين باشا في الخروج بنفسه إلى الدورة بل أرسل كتخذاه عثمان أفندي. ويبدو أنه خشي مواجهة التمرد في جبال القدس. وقد أصدر والي الشام الجديد _ولي الدين_ مرسوماً إلى متسلمي سناجق القدس ونابلس وجنين يعلمهم بأنه وجه من قبله كتخذاه عثمان أفندي من أجل القيام بالدورة لجمع الأموال الأميرية التي تصرف على قافلة الحج الشامي وجاء في المرسوم الذي صدر في غرة شعبان 1241هـ ما يلي: "ومأذون من طرفنا بالتحصيل والربط والزبط والعزل والنصب وأمره من أمرنا ونهيه من نهينا... وكيلاً منصوباً من طرفنا ويكون مرفوع المقام مسموع الكلام مهما كان مرتب من أموال الميسرين وخدمات حجازية توريدهم على يده تماماً من غير نقصان وإن جميع ذلك مرتب إلى طريق الحاج الشريف"(35). ولم يخلُ المرسوم من تشديد على تحصيل الأموال الأميرية حيث نص "فاحذروا من التهاون والإهمال بذلك وتكونوا جميعاً بالاتفاق والاتحاد قلباً وقالباً معاذ الله التالي إن بدا من أحدكم أدنى تهاون أو قصور"(36).
وقد وصل عثمان باشا إلى نابلس وأرسل من هناك أوامره إلى علماء القدس وأعيانها بأن يسعوا لتحصيل الضرائب المطلوبة. وحاول قاضي القدس من المذهب الشافعي_ أحمد أفندي أبو السعود_ بالتوسط بين عثمان أفندي وبين زعماء الثورة في المدينة. وتم الاتفاق على أن يجمع أهالي القدس الضرائب ويقوموا بإرسالها إلى نابلس مقابل امتناع عثمان أفندي عن الحضور بعساكره إلى مدينة القدس ونواحيها. ولكن الأهالي لم ينفذوا ما اتفق عليه. وبالرغم من عدم نجاح عثمان أفندي في تحصيل الضرائب فأنه قفل عائداً إلى دمشق حيث كان مضطراً للعودة لدمشق ليساهم في إعداد قافلة الحج(37). وقد أثبت والي دمشق فشله في قمع التمرد، كما أنه لم ينجح في تأمين الحجاج وتقديم الخدمات المطلوبة، لذلك تم عزله وتعيين آخر خلفاً له(38). وقد وصف ميخائيل الدمشقي ولي الدين باشا بالقول: "كان عنده حمق وليس له تفتيش على شيء"(39).
كان السلطان محمود سنة 1826م منشغلاً بمذبحة الإنكشارية ووصل إلى مسامعه التمرد الذي قام به سكان القدس وعدم انصياعهم لأوامره. وبينما كان والي دمشق ولي الدين باشا في الحجاز أرسل السلطان محمود الثاني رسالة شديدة اللهجة إلى عبد الله باشا في أكتوبر 1826م يأمره بقيادة جيشه إلى القدس لإخضاع "الخونة المتمردين" ويسترد هيبة الدولة. وقد جمع الباشا نحو ألفين فقط وأرسلهم بقيادة كيخياه. حيث أخذوا معهم سبعة مدافع صغيرة ومدفعاً كبيراً(40).
لقد توقف الكيخيا في الرملة ودخل في مراسلات مع آل أبي غوش الذين وعدوا بالسماح له ولجنوده بالعبور إلى القدس في حالة حصولهم على هدية. وبذلك نجح الكيخيا في استقطاب آل أبي غوش وسلخهم عن التحالف مع زعماء القدس والفلاحين. وقد أنطلق إثر ذلك عابراً الممرات الجبلية الوعرة التي يسيطر عليها آل أبي غوش حيث وصل إلى القدس. وعسكر الكيخيا في مقابل القلعة قرب كنيسة القديس جورج وفرض حصاراً على المدينة. وقبل وصول الكيخيا عهد المقدسيون إلى بعض المسحيين واليهود بإغلاق بوابات المدينة بالحجارة. حيث يشير ذلك إلى نيتهم المقاومة. وقد أثار عزمهم هذا الكيخيا الذي قرر الكتابة إليهم بشكل ودي طالباً منهم قبول مجموعة صغيرة من الجنود في القلعة كإشارة على خضوعهم للسلطان. وقد وعدهم بأن يديروا شؤونهم بأنفسهم. وقد أرسل لهم رسائل عبد الله باشا التحذيرية التي تتضمن نفس العرض. ولكن ثوار القدس رفضوا التسليم. وأجابوا أنهم أقسموا مراراً على ألا يسلموا المدينة ثانية إلى الأجانب والغرباء (ويقصدون بذلك العثمانيين والألبان) وأنهم من أجل ذلك على استعداد للموت كرجال أحرار على أن يقبلوا نير الغرباء سواء أكانوا مسلمين أم لا(41).
وقد استعد أهالي القدس للدفاع عن مدينتهم، وأمنوا صداقة الطوائف الأخرى من مسيحيين ويهود، وعهدوا إليهم بسد أبواب المدينة بالحجارة. وقد حاول الكيخيا في بادئ الأمر أن يقنعهم بالاستسلام، فأرسل كتاباً ودياً لكل واحد من زعمائهم يطلب منه أن ينصح مقربيه بالتسليم. ولكنهم رفضوا قائلين: "إنهم أقسموا ألا يعدلوا عن ثورتهم، وألا يستسلموا للسلطان ما دام في مدينتهم... إنه لا فرق في نظرهم إذا ما بحث عن الأجنبي، بين شرقي أو غربي، بين تركي أو ألباني، وأنهم لعلى استعداد للموت في سبيل وطنهم. إنهم يريدون الاستقلال، ويؤثرونه على الخنوع والخضوع إلى الأجنبي: مسلماً كان أم غير مسلم"(42). يمكن القول إن هذا يحمل في طياته تطوراً هاماً في مفهوم الولاء. حيث يبدو هنا التراجع الواضح في الولاء للسلطان، وبالتالي تراجع الرابطة الدينية وحلول الرابطة الوطنية التي تجمع بين المسلمين والمسيحيين في المدينة. وهو يشكل تحولاً وتطوراً في مفهوم المواطنة. وإنها هنا ترتبط بالمكان وهو مدينة القدس. ويمكن القول أن الثورة تحمل في طياتها جذور تشكل الهوية الوطنية. فالحديث واضح هنا عن الفصل بين ما هو عربي وغير عربي. والتقسيم هنا على العرق وليس على الدين. كذلك الحديث هنا يأتي عن الفصل بين ما هو محلي وطني وبين ما هو أجنبي. و فوق ذلك يطرح هنا بوضوح مفهوم الاستقلال عن الدولة، ورفض الخضوع لها. وكل ذلك يشكل بالفعل تطوراً كبيراً على صعيد الهوية والانتماء والولاء. ويبرز هنا مفهوم التضحية في سبيل الوطن وتراجع مفهوم التضحية على أساس الدين.
وقد كتب لهم الكيخيا ثانية محذراً لهم من النتائج الكارثية لتمردهم، والتأثيرات البشعة للحرب. وقد أجابوا بنفس الإجابة السابقة. وقد انتظر الكيخيا يومين دون أي مؤشرات جديدة، لذلك أمر رجال المدفعية بقصف المدينة حيث وجهوا نيرانهم في البداية في الهواء ثم باتجاه القلعة. حيث اعتقد الكيخيا أن المدافعين سوف يفقدون شجاعتهم، ولكن فُوجئ بالمدافعين عن القلعة يردون بإطلاق النار، ومع ذلك فإنهم لم يصيبوا معسكر الجيش الذي كان متحصناً وراء التلة. وقد كانت أسوار المدينة محصنة ولذلك قاومت قذائف المدفعية التي كانت صغيرة. ولمدة سبعة أيام استمرت القذائف بالسقوط على القلعة ولكن بدون تأثير لأن حجارة القلعة أولاً كانت قوية وثانياً لأنها كانت مغطاة بالخشب والقصب والطين. وقد أرسل الكيخيا لعبد الله باشا تقريراً يتضمن الأحداث الجارية الذي غضب وعلى الفور أرسل مدافع جديدة تستطيع ضرب قنابر كبيرة. حيث نصبت المدافع الجديدة على جبل الزيتون لقصف القلعة. حيث إن المسافة كانت كبيرة فإنها لم تؤثر كثيراً ولذلك تخلى الكيخيا عن قصف القلعة وفتح النار على منازل الأعيان. وقد أحدث ذلك انقساماً بين مسلمي المدينة إذ انقسموا إلى قسمين. فهم لم يتعودوا على الحصار الذي داهمهم فجأة. حيث عانى الفقراء من عسر شديد، وأصبحوا لا يستطيعون تحصيل الطعام الذي يأتي من خارج المدينة(43).
وقد أفزعت القنابل والرصاص النساء والأطفال. وبدأ العديد منهم يتذمر ويدعو على زعماء المدينة وكذلك على الموجودين في القلعة. وحدث سخط وهياج وبدأ العامة يتداولون أنه من الأفضل الاستسلام. وقد عُرض الاقتراح على الثوار المتواجدين في القلعة فرفضوا ذلك في بادئ الأمر لأنهم كانوا أول من ثار، وخشوا من عقوبة الإعدام. ولكن كان هناك اتفاق عام بأن يختبروا أولاً عروض الكيخيا عليهم. ولذلك فتحوا بوابة داوود وسمحوا لمجموعة من الأعيان كبار السن بالمرور والذهاب إلى معسكر الكيخيا حيث تم استقبالهم بترحاب. وقد وعد الكيخيا بالعفو العام، وتم الاتفاق كذلك على قيام الفلاحين مستقبلاً بدفع ضرائب الميري العادية من دون زيادات أو غرامات. وأن لا يتدخل العساكر في القلعة على الإطلاق بالشؤون السياسية أو أي أمور أخرى للمدينة. وقد عاد الكبار إلى المدينة لأخبار الأهالي باتفاق التسليم، فوافق الجميع على الشروط ما عدا المتواجدين في القلعة الذين أبدوا شكهم ورفضوا الخروج منها. ولكن بعد إقناعهم من بقية الأهالي وافقوا على الخروج بشرط أن يأخذوا معهم إلى بيوتهم ممتلكاتهم التي كانت في القلعة. حيث طلبوا مهلة ثلاثة أيام من أجل ذلك، وتم ضمان ذلك لهم. وقد أخذوا معهم أشياءهم وكذلك أخلوا مخازن المواد الغذائية الموجودة هناك مثل الذرة... الخ، وكذلك ذخائر حربية مثل البارود ورصاص والذي تم إخفائها في مخابئ المنازل. وقد أخذ القادة أشياءهم الثمينة إلى الأديرة حيث تم إخفائها بأمان. وبعد ثلاثة أيام قدم يوسف جبه جي وأحمد آغا دزدار إلى الكيخيا، وسلما أنفسهما وكذلك قدما مفاتيح القلعة. وفي نفس الوقت تم إرسال ثلاثمائة عسكري للسيطرة على القلعة. وقد تم إرسال الزعيمين المذكورين إلى عبد الله باشا كما أمر ليبت في أمرهما رسمياً. ولكنهم لم يعانيا من أي سوء معاملة كما جرى الاتفاق. ولكن تم أمرهما بعدم العودة للعيش في القدس. حيث نفي يوسف آغا إلى الرملة فيما نفي أحمد آغا إلى نابلس. حيث سيطر عبد الله باشا على القدس، وعين عليها متسلماً بشكل مؤقت. ثم كتب إلى والي دمشق أن يرسل من طرفه متسلماً وعساكر كما كان سابقاً وذلك بناء على أمر السلطان. وفي العشرين من ديسمبر من نفس السنة (1826) وصل إلى المدينة متسلم جديد وعساكر من قبل الوالي الجديد الذي حل محل مصطفى باشا، وقامت عساكر عبد الله باشا بالمغادرة(44).
ومن الجدير بالذكر أن القحط قد أصاب فلسطين في سنة 1826م مما زاد الأوضاع سوءاً ودفع رهبان الروم في القدس إلى إرسال رسالة إلى محمد علي باشا _ والي مصر _ بتاريخ 17/ محرم 1242هـ يسترحمونه بأن يؤذن لهم بابتياع 500 إردب حنطة و50 إردباً أرز بالسعر الرائج والثمن لمضي سنة(45). وقد قال حسن آغا العبد: "وفي زمن ولايته (ولاية والي الدين) ضربت جميع إيالة الشام من العرب (البدو)، والجراد والظلم. بحيث أبيعت الحنطة بخمسماية قرش، وقنطار السمن بألف ومائتين قرش وماله من وجود، وقنطار الرز بمايتين وخمسين قرش. ربنا تعالى يلطف بعباده"(46).
وبعد انتهاء ثورة القدس أرسل محمد علي رسالة إلى عبد الله باشا يشير فيها إلى علمه بانتهاء فتنة القدس، "ويظهر سروره وابتهاجه"(47). ويبدو أن محمد علي قد لعب دوراً رئيساً في إنهاء الثورة، ربما من خلال طلبه من زعماء القدس إنهاء الثورة حيث ورد في رسالة من محمد نجيب أفندي (من كبار كتاب محمد علي) إلى محمد علي "إن ثورة القدس انتهت، وإن رجال الدولة كانوا يعتقدون أن عبد الله باشا هو الذي أنهاها ولكن التقارير الواردة تدل أن سطوة العزيز قضت عليها"(48).
ومن الجدير بالذكر أن عدداً من أشراف القدس وزعمائها قد غادروا المدينة خلال الثورة، وانتقلوا إلى مصر ربما خشية على أنفسهم أو أملاكهم أو عواقب الثورة. وقد عادوا إلى القدس بعد انتهاء الثورة ومنهم محمد رشيد أفندي، والسيد محمد تاج الدين. حيث وجه محمد علي رسالة بشأنهما إلى والي دمشق بتاريخ 9 جمادي الآخرة 1242هـ يوصيه بهما بعد رغبتهما في العودة إلى القدس(49). وكذلك كان ممن التجأ إلى مصر بعد اندلاع الثورة محمد عفيفي آغا الانكشارية في القدس، وعاد إليها بعد انتهاء الثورة(50). وممن التجأ أيضاً حاجب كنيسة الأرمن في القدس حيث حصل على هبة من الخزينة المصرية بأمر من الديوان الخديوي أثناء إقامته في مصر(51).
وبعد أن تمكن عبد الله باشا من إخضاع القدس سلمها إلى والي دمشق وانسحب عملاً بأوامر السلطان. فتم تعيين متسلم جديد تم تعزيز سلطته بقوة كبيرة من الجند. حيث طالبهم بدفع الضرائب المتأخرة عن سنتين: الحالية والمنصرمة(52).
نتائج الثورة:
- أبرزت الثورة قوة عبد الله باشا وساهم ذلك في قيام الدولة لاحقاً بضم سناجق فلسطين التابعة لولاية دمشق إلى حكمه.
- أبرزت الثورة مدى السخط الذي أصاب سكان القدس وأعيانها وفلاحي جبالها على الحكم العثماني الذي بالغ في فرض الضرائب الباهظة، وتعسف في تحصيلها. حيث شهدت فلسطين خلال عشرينيات القرن التاسع عشر العديد من التمردات ضد تعسف المتسلمين والولاة في جمع الضرائب وفرض مركزية الدولة كما حدث في لواء غزة سنة 1821م، والقدس 1824-1826م، ولواء نابلس سنة 1829م.
- أظهرت الثورة ازدياد دور الفلاحين في صنع الأحداث التاريخية، حيث أنهم أبرزوا كفاءة واعية بحقوقها، حريصة على الدفاع عن مصالحها ضد المتسلمين والولاة. وهذا يعد تحدياً للنظرة الاستشراقية التي تحاول تصوير المجتمع الفلسطيني الفلاحي على أنه مجتمع جامد متخلف. فقد أثبت الفلاحون تفاعلهم مع الأحداث وقيادتها. وهذا يدعو إلى إعادة كتابة التاريخ بحيث يتم وضع الفلاحين الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من سكان فلسطين في التاريخ. وبالتالي محاولة كتابة التاريخ كتابة شعبوية.
- أبرزت الثورة ازدياد تدخل والي مصر _محمد على باشا_ في شؤون فلسطين وبلاد الشام. حيث راسل الثوار والي مصر الذي أسهم في انتهاء الثورة.
- إن الذي لاشك فيه أن ثورة القدس قد أسهمت في تعزيز مكانة المدينة، وأبرزت دورها المركزي في الأحداث الجارية في فلسطين. وهذا شكل بحد ذاته اتجاه المدينة نحو تَبّوء مركز الصدارة على المدن الأخرى باتجاه تحولها إلى عاصمة فلسطين التاريخية.